نسبة للآية الأولى من السورة :
" إنا أنزلناه فى ليلة القدر " و السورة بأكملها تتحدث عن خصائص و ماهية ليلة القدر .
تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر و تعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر و تنزل الملائكة و الروح فيها، و السورة تحتمل المكية و المدنية و لا يخلو بعض ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و غيرهم من تأييد لكونها مدنية.
قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر» ضمير «أنزلناه» للقرآن و ظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته و يؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج.
و في معنى الآية قوله تعالى: «و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة»: الدخان: 3 و ظاهره الإقسام بجملة الكتاب المبين ثم الإخبار عن إنزال ما أقسم به جملة.
فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث و عشرين سنة كما يشير إليه قوله: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا»: إسراء: 106 و قوله: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا»: الفرقان: 32.
فلا يعبأ بما قيل: إن معنى قوله: «أنزلناه» ابتدأنا بإنزاله و المراد إنزال بعض القرآن.
و ليس في كلامه تعالى ما يبين أن الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن»: البقرة: 185 فإن الآية بانضمامها إلى آية القدر تدل على أن الليلة من ليالي شهر رمضان.
و أما تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الأخبار و سيجيء بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و قد سماها الله تعالى ليلة القدر، و الظاهر أن المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة و موت و رزق و سعادة و شقاء و غير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: «فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك»: الدخان: 6 فليس فرق الأمر الحكيم إلا أحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير.
و يستفاد من ذلك أن الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها أمور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها و التي بعدها و إن صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة.
على أن قوله: «يفرق» - و هو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، و قوله: «خير من ألف شهر» و «تنزل الملائكة» إلخ يؤيد ذلك.
فلا وجه لما قيل: إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر، و كذا ما قيل: إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رفعها الله، و كذا ما قيل: إنها واحدة بعينها في جميع السنة و كذا ما قيل: إنها في جميع السنة غير أنها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان و سنة في شعبان و سنة في غيرهما.
و قيل: القدر بمعنى المنزلة و إنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، و قيل: القدر بمعنى الضيق و سميت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة.
و الوجهان كما ترى.
فمحصل الآيات - كما ترى - أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها أحكام الأمور بحسب التقدير، و لا ينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فإن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر و التغير في التقدير أمر آخر كما أن إمكان التغير في الحوادث الكونية بحسب المشية الإلهية لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ قال تعالى: «و عنده أم الكتاب»: الرعد: 39.
على أن لاستحكام الأمور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها و شرائطها تامة و ناقصة و من المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الأحكام و يتأخر تمام الأحكام إلى وقت آخر لكن الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه.
قوله تعالى: «و ما أدراك ما ليلة القدر» كناية عن جلالة قدر الليلة و عظم منزلتها و يؤكد ذلك إظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل: «ما ليلة القدر ليلة القدر خير» و لم يقل: و ما أدراك ما هي هي خير.
قوله تعالى: «ليلة القدر خير من ألف شهر» بيان إجمالي لما أشير إليه بقوله: «و ما أدراك ما ليلة القدر» من فخامة أمر الليلة.
و المراد بكونها خيرا من ألف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون و هو المناسب لغرض القرآن و عنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، و يمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» و هناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر» تنزل أصله تتنزل، و الظاهر من الروح هو الروح الذي من الأمر قال تعالى: «قل الروح من أمر ربي»: إسراء: 85 و الإذن في الشيء الرخصة فيه و هو إعلام عدم المانع منه.
و «من» في قوله: «من كل أمر» قيل: بمعنى الباء و قيل: لابتداء الغاية و تفيد السببية أي بسبب كل أمر إلهي، و قيل: للتعليل بالغاية أي لأجل تدبير كل أمر من الأمور و الحق أن المراد بالأمر إن كان هو الأمر الإلهي المفسر بقوله «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن»: يس: 82 فمن للابتلاء و تفيد السببية و المعنى تتنزل الملائكة و الروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدأ تنزلهم و صادرا من كل أمر إلهي.
و إن كان هو الأمر من الأمور الكونية و الحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية و المعنى تتنزل الملائكة و الروح في الليلة بإذن ربهم لأجل تدبير كل أمر من الأمور الكونية.
قوله تعالى: «سلام هي حتى مطلع الفجر» قال في المفردات،: السلام و السلامة التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة انتهى فيكون قوله: «سلام هي» إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه و سد باب نقمة جديدة تختص بالليلة و يلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما أشير إليه في بعض الروايات.
و قيل: المراد به أن الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين و مرجعه إلى ما تقدم.
و الآيتان أعني قوله: «تنزل الملائكة» إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله: «ليلة القدر خير من ألف شهر».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق